فصل: تفسير سورة البلد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير جزء عــم **


 تفسير سورة البلد

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏‏.‏

البسملة‏:‏ تقدم الحديث عليها‏.‏ ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ ‏{‏لا‏}‏ للاستفتاح، أي‏:‏ استفتاح الكلام وتوكيده، وليست نافية، لأن المراد إثبات القسم، يعني أنا أقسم بهذا البلد لكن ‏(‏لا‏)‏ هذه تأتي هنا للتنبيه والتأكيد و‏{‏أُقْسِمُ‏}‏ القسم تأكيد الشيء بذكر معظم على وجه مخصوص‏.‏ فكل شيء محلوف به لابد أن يكون معظمًا لدى الحالف، وقد لا يكون معظمًا في حد ذاته‏.‏ فمثلًا الذين يحلفون باللات والعزى هي معظمة عندهم، لكن هي في الواقع ليست عظيمة ولا معظمة‏.‏ فالحلف، أو القسم، أو اليمين المعنى واحد، هي تأكيد الشيء بذكر معظم عند الحالف على صفة مخصوصة‏.‏ وحروف القسم هي‏:‏ الباء، والواو، والتاء، والذي في الآية الكريمة هنا ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ ‏(‏الباء‏)‏‏.‏ ‏{‏بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ البلد هنا مكة، وأقسم الله بها لشرفها وعظمها، فهي أعظم بقاع الأرض حرمة وأحب بقاع الأرض إلى الله عز وجل، ولهذا بعث منها رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - الذي هو سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فجدير بهذا البلد الأمين أن يقسم به‏.‏ ولكن نحن لا نقسم به، لأنه مخلوق، وليس لنا الحق أن نقسم بمخلوق‏.‏ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك‏)‏، أما الله عز وجل فإنه سبحانه يقسم بما شاء، ولهذا أقسم هنا بمكة ‏{‏لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ‏}‏ قيل المعنى‏:‏ أقسم بهذا البلد حال كونك حالًا فيه، لأن حلول النبي - صلى الله عليه وسلّم - في مكة يزيدها شرفًا إلى شرفها‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ وأنت تستحل هذا البلد، فيكون إقسام الله تعالى بمكة حال كونها حلًا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك عام الفتح؛ لأن مكة عام الفتح أُحلت للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم تحل لأحد قبله، ولا تحل لأحد بعد ذلك، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس‏)‏، فيكون إقسام الله تعالى بهذا البلد مقيدًا بما إذا كانت حلًا للرسول - صلى الله عليه وسلّم - عـام الفتـح؛ لأنهـا في ذلك اليـوم تزداد شرفًا إلى شرفها، حيث طُهِّرت من الأصنام وهزم المشركون، وفتحت عليهم بلادهم عنوة، وصارت هذه البلد بعد أن كانت بلد كفر صارت بلاد إيمان، وبعد أن كانت بـلاد شرك صـارت بلاد توحيد، وبعد أن كانت بلاد عناد صارت بلاد إسلام، فأشرف حال لمكة كانت عند الفتح‏.‏ ‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ‏}‏ يعني وأقسم بالوالد وما ولد، فمن المراد بالوالد ومن المراد بالولد‏؟‏ قيل‏:‏ المراد بالوالد آدم، وبالولد بنو آدم وعلى هذا تكون ‏(‏ما‏)‏ بمعنى ‏(‏من‏)‏ أي‏:‏ ووالد ومن ولد، لأن ‏(‏من‏)‏ للعقلاء، و‏(‏ما‏)‏ لغير العقلاء‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالوالد وما ولد كل والد وما ولد، الإنسان والبهائم وكل شيء، لأن الوالد والمولود كلاهما من آيات الله عز وجل، كيف يخرج هذا المولود حيًّا سويًّا سميعًا بصيرًا من نطفة من ماء، فهذا دليل على كمال قدرة الله عز وجل، هذا الولد السوي يخرج من نطفة ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 77‏]‏‏.‏ كذلك الحشرات وغيرها تخرج ضعيفة هزيلة، ثم تكبر إلى ما شاء الله تعالى من حد‏.‏ والصحيح أن هذه عامة تشمل كل والد وكل مولود ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ اللام هنا واقعة في جواب القسم، لتزيد الجملة تأكيدًا، و‏(‏قد‏)‏ تزيد الجملة تأكيدًا أيضًا فتكون جملة ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ‏}‏ مؤكدة بثلاثة مؤكدات، وهي‏:‏ القسم، واللام، وقد‏.‏ ‏{‏خَلَقْنَا الإِنسَانَ‏}‏ الإنسان اسم جنس يشمل كل واحد من بني آدم ‏{‏فِي كَبَدٍ‏}‏ فيها معنيان‏:‏ المعنى الأول‏:‏ في استقامة، يعني أنه خلق على أكمل وجه في الِخلقة، مستقيمًا يمشي على قدميه، ويرفع رأسه، وبدنه معتدلًا‏.‏ والبهائم بالعكس الرأس على حذاء الدبر، أما بنو آدم فالرأس مرتفع أعلى البدن، فهو كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏التين‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بـ‏{‏كَبَدٍ‏}‏ مكابدة الأشياء ومعاناتها، وأن الإنسان يعاني المشقة في أمور الدنيا، وفي طلب الرزق، وفي إصلاح الحرث وغير ذلك‏.‏ ويعاني أيضًا معاناة أشد مع نفسه ومجاهدتها على طاعة الله، واجتناب معاصي الله، وهذا الجهاد الذي هو أشق من معاناة طلب الرزق، ولاسيما إذا ابتلي الإنسان ببيئة منحرفة وصار بينهم غريبًا، فإنه سيجد المشقة في معاناة نفسه، وفي معاناة الناس أيضًا‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ أفلا يمكن أن تكون الآية شاملة للمعنيين‏؟‏ فالجواب‏:‏ بلى، وهكذا ينبغي إذا وجدت في الكتاب العزيز آية تحتمل معنيين وليس بينهما مناقضة فاحملها على المعنيين، لأن القرآن أشمل وأوسع، فإن كان بينهما مناقضة فانظر الراجح‏.‏ فمثلًا، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏ ‏(‏قروء‏)‏ جمع قرء بفتح القاف فما هو ‏(‏القرء‏)‏‏؟‏ قيل‏:‏ هو الحيض، وقيل‏:‏ هو الطهر‏.‏ هنا لا يمكن أن تحمل الآية على المعنيين جميعًا للتناقض، لكن اطلب المرجح لأحد القولين وخذ به‏.‏ فهنا نقول‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ‏}‏ يصح أن تكون الآية شاملة للمعنيين أي في حسن قامة واستقامة، و‏{‏فِي كَبَدٍ‏}‏ في معاناة لمشاق الأمور‏.‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ أن الإنسان في نفسه وقوته يظن أن لن يقدر عليه أحد، لأنه في عنفوان شبابه وقوته وكبريائه وغطرسته، فيقول لا أحد يقدر علي، أنا أعمل ما شئت، ومنه قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏‏.‏ إذًا، فالإنسان في حال صحته وعنفوان شبابه يظن أنه لا يقدر عليه أحد، حتى الرب عز وجل يظن أنه لا يقدر عليه، وهذا لا شك بالنسبة للكافر، أما المؤمن فإنه يعلم أن الله قادر عليه، وأنه على كل شيء قدير فيخاف منه‏.‏ ‏{‏يَقُولُ‏}‏ أي يقول الإنسان أيضًا في حال غناه وبسط الرزق له ‏{‏أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا‏}‏ أي‏:‏ مالًا كثيرًا في شهواته وفي ملذاته‏.‏ يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ أيظن هذا أنه لا يراه أحد في تبذيره المال، وصرفه في ما لا ينفع، وكل هذا تهديد للإنسان أن يتغطرس، وأن يستكبر من أجل قوته البدنية، أو كثرة ماله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏‏.‏ هذه ثلاث نعم من أكبر النعم على الإنسان ‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏}‏ يعني يبصر بهما ويرى فيهما، وهاتان العينان تؤديان إلى القلب ما نظر إليه الإنسان، فإن نظر نظرة محرمة كان آثمًا، وإن نظر نظرًا يقربه إلى الله كان غانمًا، وإذا نظر إلى ما يباح له فإنه لا يحمد ولا يذم ما لم يكن هذا النظر مفضيًا إلى محظور شرعي فيكون آثمًا بهذا النظر‏.‏ ‏{‏وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ‏}‏ لسانًا ينطق به، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذه من نعم الله العظيمة، لأنه بهذا اللسان والشفتين يستطيع أن يعبر عما في نفسه، ولولا هذا ما استطاع، لو كان لا يتكلم فكيف يعبر عما ما في قلبه‏؟‏ كيف يعلم الناس بما في نفسه‏؟‏ اللهم إلا بإشارة تتعب، يتعب المشير ويتعب الذين أشير إليهم‏.‏ ولكن من نعمة الله أن جعل له لسانًا ناطقًا، وشفتين يضبط بهما النطق، وهذا من نعمة الله، وهو أيضًا من عجائب قدرته‏:‏ يأتي النطق من هواء يكون من الرئة يخرج من مخارج معينة، إن مر بشيء صار حرفًا، وإن مر بشيء آخر صار حرفًا آخر، وهو هواء واحد من مخرج واحد، لكن يمر بشعيرات دقيقة في الحلق، وفي الشفتين، وفي اللثة هذه الشعرات تكون الحروف‏.‏ فتجد مثلًا الباء والشين كلها بهواء يندفع من الرئة ومع ذلك تختلف باختلاف ما تمر عليه في هذا الفم، ومخارج الحروف المعروفة، هذا من تمام قدرة الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ قيل‏:‏ أي بينا له طريق الخير، وطريق الشر‏.‏ القول الثاني‏:‏ ‏{‏هَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ‏}‏ دللناه على ما به غذاؤه وهو الثديان؛ فإنهما نجدان لارتفاعهما فوق الصدر، فهداه الله تعالى وهو رضيع لا يعرف، فمن حين أن يخرج وتضعه أمه يطلب الثدي، والذي أعلمه الله عز وجل، فبين الله عز وجل منته على هذا الإنسان من حين أن يخرج يهتدي إلى النجدين‏.‏ وفي بطن أمه يتغذى عن طريق السرة؛ لأنه لا يستطيع أن يتغذى من غير هذا، فلو تغذى عن طريق الفم لاحتاج إلى بول وغائط، وكيف ذلك‏؟‏ لكنه عن طريق السرة يأتيه الدم من دم أمه وينتشر في عروقه حتى يحيا إلى أن يأذن الله تعالى بإخراجه‏.‏

{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ‏}‏‏.‏

{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ أي الإنسان الذي كان يقول ‏{‏أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَدًا‏}‏ ‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ يعني هلا اقتحم العقبة‏؟‏ والاقتحام هو التجاوز بمشقة يسمى اقتحامًا‏.‏ و‏{‏الْعَقَبَةَ‏}‏ هي الطريق في الجبل الوعر ولا شك أن اقتحام هذه العقبة شاق على النفوس، لا يتجاوزه أو لا يقوم به إلا من كان عنده نية صادقة في تجاوز هذه العقبة‏.‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ‏}‏ هذا الاستفهام للتشويق والتفخيم أيضًا، يعني‏:‏ ما الذي أعلمك شأن هذه العقبة التي قال الله عنها ‏{‏فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ‏}‏ بينها الله في قوله ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ هي خبر لمبتدأ محذوف والتقدير‏:‏ ‏"‏هي فك رقبة‏"‏ وفك الرقبة له معنيان‏:‏ المعنى الأول‏:‏ فكها من الرق، بحيث يعتق الإنسان العبيد المملوكين سواء كانوا في ملكه فيعتقهم، أو كانوا في ملك غيره فيشتريهم ويعتقهم‏.‏ المعنى الثاني‏:‏ فك رقبة من الأسير، فإن فكاك الأسير من أفضل الأعمـال إلى الله عز وجل‏.‏ والأسير ربما لا يفكه العدو إلا بفدية مالية، وربما تكون هذه الفدية فدية باهظة كثيرة لا يقتحمها إلا من كان عنده إيمان بالله عز وجل بأن يخلف عليه ما أنفق، وأن يثيبه على ما تصدق‏.‏ ‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ‏}‏ ‏{‏أَوْ‏}‏ هذه للتنويع يعني وإما ‏{‏إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ذي مجاعة شديدة، لأن الناس قد يصابون بالمجاعة الشديدة، إما لقلة الحاصل من الثمار والزروع، وإما لأمراض في أجسامهم يأكل الإنسان ولا يشبع، وهذا قد وقع فيما نسمع عنه في البلاد النجدية وربما في غيرها أيضًا‏.‏ أن الناس يأكلون ولا يشبعون، يأكل الواحد مأكل العشرة ولا يشبع، ويموتون من الجوع في الأسواق ويتساقطون في الأسواق من الجوع، هذه من المساغب‏.‏ أو قلة المحصول بحيث لا تثمر الأشجار، ولا تنبت الزروع، فيقل الحاصل وتحصل المسغبة، ويموت الناس جوعًا، وربما يهاجرون عن بلادهم‏.‏ ‏{‏يَتِيمًا‏}‏ اليتيم هو من مات أبوه قبل أن يبلغ سواءً كان ذكرًا أم أنثى‏.‏ فإن بلغ فإنه لا يكون يتيمًا؛ لأنه بلغ وانفصل‏.‏ وكذلك لو ماتت أمه فإنه لا يكون يتيمًا، خلافًا لما يظنه بعض العامة، أن اليتيم من ماتت أمه وهذا ليس بصحيح، فاليتيم من مات أبوه؛ لأنه إذا مات أبوه لم يكن له كاسب من الخلق يكسب له‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذَا مَقْرَبَةٍ‏}‏ ذا قرابة من الإنسان لأنه إذا كان يتيمًا كان له حظ من الإكرام والصدقات، وإذا كان قريبًا ازداد حظه من ذلك؛ لأنه يكون واجب الصلة، فمن جمع هذين الوصفين اليتم والقرابة فإن الإنفاق عليه من اقتحام العقبة إذا كان ذلك في يوم ذي مسغبة‏.‏ ‏{‏أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أو إطعام في يوم ذي مسغبة ‏{‏مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏، المسكين‏:‏ هو الذي لا يجد قوته ولا قوت عياله‏.‏ المتربة‏:‏ مكان التراب، والمعنى‏:‏ أنه مسكين ليس بيديه شيء إلا التراب‏.‏ ومعلوم أنه إذا قيل عن الرجل‏:‏ ليس عنده إلا التراب، فالمعنى‏:‏ أنه فقير جدًا ليس عنده طعام، وليس عنده كساء، وليس عنده مال فهو مسكين ذو متربة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ‏}‏ يعني‏:‏ ثم هو بعد ذلك ليس محسنًا على اليتامى والمساكين فقط، بل هو ذو إيمان، آمن بكل ما يجب الإيمان به‏.‏ وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلّم - الذي يجب الإيمان به، فقال حين سأله جبريل عن الإيمان‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، والقدر خيره وشره‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ‏}‏ أي‏:‏ أوصى بعضهـم بعضًا بالصبر، والصبر ثلاثة أنواع‏:‏ صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، فهم صابرون متواصون بالصبر بهذه الأنواع‏:‏ الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة‏.‏ وقد اجتمعت هذه الأنواع الثلاثة، في الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، فها هو الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - صابر على طاعة الله، يجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، ويؤذى ويعتدى عليه بالضرب، حتى هم المشركون بقتله وهو مع ذلك صابر محتسب، وهو أيضًا صابر عن معصية الله، لا يمكن أن يغدر بأحد، ولا أن يكذب أحدًا، ولا أن يخون أحدًا، وهو أيضًا متق لله تعالى بقدر ما يستطيع‏.‏ كذلك صابر على أقدار الله، كم أوذي في الله عز وجل من أجل طاعته، أليست قريش قد آذوه حتى إذا رأوه ساجدًا تحت الكعبة أمروا من يأتي بسلا ناقة فيضعه على ظهره، وهو ساجد - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏؟‏‏!‏ وهو صابر في ذلك كله‏.‏ ويوسف - صلى الله عليه وآله وسلم - صبر على أقدار الله فقد أُلقي في البئر في غيابة الجب، وأوذي في الله بالسجن، ومع ذلك فهو صابر محتسب لم يتضجر ولم ينكر ما وقع به‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏ أي‏:‏ أوصى بعضهم بعضًا أن يرحم الاخر، ورحمة الإنسان للمخلوقات تكون في البهائم وتكون في الناطق‏.‏ فهو يرحم آباءَه، وأمهاته، وأبناءَه، وبناته، وإخوانه، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وهكذا‏.‏ ويرحم كذلك سائر البشر، وهو أيضًا يرحم الحيوان البهيم فيرحم ناقته، وفرسه، وحماره، وبقرته، وشاته، وغير ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء‏)‏‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ‏}‏ أي هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات ‏{‏أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ‏}‏ أي‏:‏ أصحاب اليمين، الذين يُؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ جحدوا بها ‏{‏هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ‏}‏ ‏{‏هُمْ‏}‏‏:‏ الضمير هنا جاء للتوكيد، ولو قيل في غير القرآن‏:‏ والذين كفروا بآياتنا أصحاب المشئمة‏.‏ لصح لكن هذا من باب التوكيد‏.‏ ‏{‏الْمَشْأَمَةِ‏}‏ يعني‏:‏ الشمال أو الشؤم‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ‏}‏ أي عليهم نار مغلقة، لا يخرجون منها ولا يستطيعون، نسأل الله أن يجعلنا من الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة إنه سميع مجيب‏.‏

 تفسير سورة الشمس

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وهو ضؤها لما في ذلك من الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وكمال علمه ورحمته‏.‏ فإن في هذه الشمس من الآيات ما لا يدركه بعض الناس، فإذا طلعت الشمس فكم توفر على العالم من طاقة كهربائية‏؟‏ توفر آلاف الملايين، لأنهم يستغنون بها عن هذه الطاقة، وكم يحصل للأرض من حرارتها، من نضج الثمار، وطيب الأشجار، ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ويحصل فيها فوائد كثيرة لا أستطيع أن أعدها؛ لأن غالبها يتعلق في علم الفلك وعلم الأرض والجيولوجيا لكنها من آيات الله العظيمة‏.‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ إذا تلاها في السير‏.‏ وقيل‏:‏ إذا تلاها في الإضاءة، ومادامت الآية تحتمل هذا وهذا فإن القاعدة في علم التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين لا تعارض بينهما وجب الأخذ بهما جميعًا، لأن الأخذ بالمعنيين جميعًا أوسع للمعنى‏.‏ فنقول‏:‏ إذا تلاها في السير؛ لأن القمر يتأخر كل يوم عن الشمس، فبينما تجده في أول الشهر قريبًا منها في المغرب، إذا هو في نصف الشهر أبعد ما يكون عنها في المشرق، لأنه يتأخر كل يوم‏.‏ أو إذا تلاها في الإضاءة، لأنها إذا غابت بدأ ضوء القمر لاسيما في الربع الثاني إلى نهاية الربع الثالث فإن ضوء القمر يكون بينًا واضحًا‏.‏ يعني‏:‏ إذا مضى سبعة أيام إلى أن يبقى سبعة أيام يكون الضوء قويًّا، وأما في السبعة الأولى والأخيرة فهو ضعيف، وعلى كل حال فإن إضاءة القمر لا تكون إلا بعد ذهاب ضوء الشمس كما هو ظاهر‏.‏ فأقسم الله تعالى بالشمس لأنها آية النهار، وبالقمر لأنه آية الليل‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ متقابلات، ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا‏}‏ إذا جلى الأرض وبينها ووضحها؛ لأنه نهار تتبين به الأشياء وتتضح ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏ إذا يغطي الأرض حتى يكون كالعباءة المفروشة على شيء من الأشياء، وهذا يتضح جليًا فيما إذا غابت الشمس وأنت في الطائرة تجد أن الأرض سوداء تحتك، لأنك أنت الان تشاهد الشمس لارتفاعك، لكن الأرض التي تحتك حيث غربت عليها الشمس تجدها سوداء كأنها مغطاة بعباءة سوداء وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا‏}‏‏.‏

{‏وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ‏}‏ السماء والأرض متقابلات‏.‏ ‏{‏وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن ‏{‏مَا‏}‏ هنا مصدرية أي‏:‏ والسماء وبنائها؛ لأن السماء عظيمة بارتفاعها وسعتها وقوتها، وغير ذلك مما هو من آيات الله فيها، وكذلك بناؤها بناء محكم، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ الأرض وما سواها حتى كانت مستوية، وحتى كانت ليست لينة جدًا، وليست قوية صلبة جدًا، بل هي مناسبة للخلق على حسب ما تقوم به حوائجهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده أن سوى لهم الأرض وجعلها بين اللين والخشونة إلا في مواضع لكن هذا القليل لا يحكم به على الكثير‏.‏ ‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ نفس هنا وإن كانت واحدة لكن المراد العموم‏.‏ يعني كل نفس ‏{‏وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ يعني سواها خِلقة وسواها فطرة، سواها خلقة حيث خلق كل شيء على الوجه الذي يناسبه ويناسب حاله‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ‏}‏ أي خلقه المناسب له ‏{‏ثُمَّ هَدَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏‏.‏ أي‏:‏ هداه لمصالحه، وكذلك سواه فطرة ولا سيما البشر فإن الله جعل فطرتهم هي الإخلاص والتوحيد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏‏.‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏‏.‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا‏}‏ أي الله عز وجل ألهم هذه النفوس ‏{‏فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ بدأ بالفجور قبل التقوى مع أن التقوى لا شك أفضل، قالوا‏:‏ مراعاة لفواصل الآيات‏.‏ ‏{‏فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ الفجور هو ما يقابل التقوى، والتقوى طاعة الله، فالفجور معصية الله، فكل عاص فهو فاجر‏.‏ وإن كان الفاجر خصَّ عرفًا بأنه من ليس بعفيف، لكن هو شرعًا يعم كل من خرج عن طاعة الله كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 7‏]‏‏.‏والمراد الكفار‏.‏ وألهامها تقواها هو الموافق للفطرة؛ لأن الفجور خارج عن الفطرة، لكن قد يلهمه الله بعض النفوس لانحرافها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ والله تعالى لا يظلم أحدًا، لكن من علم منه أنه لا يريد الحق أزاغ الله قلبه‏.‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا‏}‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ‏}‏ أي‏:‏ فاز بالمطلوب ونجا من المرهوب، ‏{‏مَن زَكَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ من زكى نفسه، وليس المراد بالتزكية هنا التزكية المنهي عنها في قوله‏:‏ ‏{‏فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 32‏]‏‏.‏ المراد بالتزكية هنا‏:‏ أن يزكي نفسه بإخلاصها من الشرك وشوائب المعاصي، حتى تبقى زكية طاهرة نقية‏.‏ ‏{‏وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا‏}‏ أي من أرداها في المهالك والمعاصي، وهذا يحتاج إلى دعاء الله سبحانه وتعالى أن يثبت الإنسان على طاعته، وعلى القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الاخرة‏.‏ فعليك دائمًا أن تسأل الله الثبات والعلم النافع، والعمل الصالح فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏

{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏‏.‏

{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ‏}‏ ثمود اسم قبيلة ونبيهم صالح - صلى الله عليه وآله وسلم - وديارهم في الحجر معروفة في طريق الناس، هؤلاء كذبوا نبيهم صالًحا‏.‏ ونبيهم صالح - صلى الله عليه وآله وسلم - كغيره من الأنبياء يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأعطاه الله سبحانه آية تدل على نبوته وهي الناقة العظيمة التي تشرب من البئر يومًا وتسقيهم لبنًا في اليوم الثاني‏.‏ وقد قال بعض العلماء‏:‏ إنه كلما جاء إنسان وأعطاها من الماء بقدر أعطته من اللبن بقدره، ولكن الذي يظهر من القرآن خلاف ذلك‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏‏.‏ فالناقة تشرب من البئر يومًا، ثم تدر اللبن في اليوم الثاني، ولكن لم تنفعهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا‏}‏ أي بطغيانها وعتوها، والباء هنا للسببية، أي‏:‏ بسبب كونها طاغية كذبت الرسول‏.‏ ‏{‏إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا‏}‏ هذا بيان للطغيان الذي ذكره الله عز وجل وذلك حين انبعث أشقاها‏.‏ و‏{‏انبَعَثَ‏}‏ يعني‏:‏ انطلق بسرعة‏.‏ ‏{‏أَشْقَاهَا‏}‏ أي أشقى ثمود أي‏:‏ أعلاهم في الشقاء - والعياذ بالله - يريد أن يقضي على هذه الناقة‏.‏ فقال لهم صالح‏:‏ ‏{‏نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا‏}‏ أي ذروا ناقة الله، لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏‏.‏ يعني اتركوا الناقة لا تقتلوها ولا تتعرضوا لها بسوء ولكن كانت النتيجة بالعكس‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي‏:‏ كذبوا صالحًا وقالوا‏:‏ إنك لست برسول، وهكذا كل الرسل الذين أرسلوا إلى أقوامهم يصمهم أقوامهم بالعيب‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏‏.‏ كل الرسل قيل لهم هذا ساحر أو مجنون، كما قيل للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ إنه ساحر، كذاب، مجنون، شاعر، كاهن، ولكن ألقاب السوء التي يلقبها الأعداء لأولياء الله لا تضرهم، بل يزدادون بذلك رفعة عند الله سبحانه وتعالى، وإذا احتسبوا الأجر أثيبوا على ذلك‏.‏ فيقول عز وجل‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوهَا‏}‏ أي‏:‏ عقروا الناقة عقرًا حصل به الهلاك‏.‏ ‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم‏}‏ يعني‏:‏ أطبق عليهم فأهلكهم كما تقول‏:‏ دمدمت البئر‏:‏ أي أطبقت عليها التراب‏.‏ ‏{‏بِذَنبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ذنوبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فالذنوب سبب للهلاك والدمار والفساد لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال الله تعالى يخاطب أشرف الخلق وخير القرون‏:‏ ‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فالإنسان يصاب بالمصائب من عند نفسه، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بسبب ذنبهم‏.‏ ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ عمها بالهلاك حتى لم يبق منهم أحد وأصبحوا في ديارهم جاثمين‏.‏ ‏{‏وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ أن الله لا يخاف من عاقبة هؤلاء الذين عذبهم، ولا يخاف من تبعتهم، لأن له الملك وبيده كل شيء، بخلاف غيره من الملوك لو انتصروا على غيرهم، أو عاقبوا غيرهم تجدهم في خوف يخشون أن تكون الكرة عليهم‏.‏ أما الله عز وجل فإنه لا يخاف عقباها‏.‏ أي‏:‏ لا يخاف عاقبة من عذبهم، لأنه سبحانه وتعالى له الملك كله، والحمد كله، فسبحانه وتعالى ما أعظمه، وما أجل سلطانه‏.‏

 تفسير سورة الليل

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى‏}‏ أقسم الله سبحانه وتعالى بالليل إذا يغشى يعني حين يغشى الأرض ويغطيها بظلامه، لأن الغشاء بمعنى الغطاء‏.‏ ‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى‏}‏ أي‏:‏ إذا ظهر وبان، وذلك بطلوع الفجر الذي هو النور الذي هو مقدمة طلوع الشمس، والشمس هي آية النهار كما أن القمر آية الليل‏.‏ ‏{‏وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى‏}‏ يعني وخَلْق الذكر والأنثى على أحد التفسيرين الذي جعل ‏(‏ما‏)‏ هنا مصدرية، والذي خَلَق الذكر والأنثى وهو الله عز وجل على التفسير الاخر‏.‏ فعلى المعنى الأول‏:‏ يكون الله سبحانه وتعالى أقسم بخلق الذكر والأنثى‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ يكون الله تعالى أقسم بنفسه، لأنه هو الذي خلق الذكر والأنثى‏.‏ ‏{‏إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى‏}‏ يعني إن عملكم ‏{‏لَشَتَّى‏}‏ أي لمتفرق تفرقًا عظيمًا‏.‏ فالله عز وجل أقسم بأشياء متضادة على أشياء متضادة‏:‏ الليل ضد النهار، الذكر ضد الأنثى، السعي متضاد صالح وسيىء، فتناسب المقسم به والمقسم عليه، وهذا من بلاغة القرآن‏.‏ فالمعنى أن اختلاف الليل والنهار والذكر والأنثى أمر ظاهر لا يخفى، فكذلك أعمال العباد متباينة متفاوتة، منها الصالح، ومنها الفاسد، ومنها ما يخلط صالحًا وفاسدًا، كل ذلك بتقدير الله عز وجل، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ثم فصّل هذا السعي المتفرق فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏‏.‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى‏}‏ أي‏:‏ أعطى ما أمر بإعطائه من مال، أو جاه، أو علم‏.‏ ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ اتقى ما أمر باتقائه من المحرمات‏.‏ ‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ صدق بالقولة الحسنى وهي قول الله عز وجل، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلّم - لأن أصدق الكلام، وأحسن الكلام كلام الله عز وجل‏.‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى‏}‏ السين‏:‏ هنا للتحقيق أي‏:‏ أن من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسييسره الله عز وجل لليسرى في أموره كلها، في أمور دينه ودنياه، ولهذا تجد أيسر الناس عملًا هو من اتقى الله عز وجل، من أعطى واتقى وصدق بالحسنى‏.‏ وكلما كان الإنسان أتقى لله كانت أموره أيسر له‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وكلما كان الإنسان أبعد عن الله كان أشد عسرًا في أموره ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن بَخِلَ‏}‏ فلم يعط ما أمر بإعطائه ‏{‏وَاسْتَغْنَى‏}‏ استغنى عن الله عز وجل، ولم يتق ربه، بل رأى أنه في غنى عن رحمة الله‏.‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى‏}‏ أي‏:‏ بالقولة الحسنى، وهي قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى‏}‏ ييسر للعسرى في أموره كلها، ولكن قد يأتي الشيطان للإنسان فيقول‏:‏ نجد أن الكفار تيسر أمورهم فيقال‏:‏ نعم‏.‏ قد تيسر أمورهم، لكن قلوبهم تشتعل نارًا وضيقًا وحرجًا كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء‏}‏‏.‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏‏.‏ ثم ما ينعمون به فهو تنعيم جسد فقط، لا تنعيم روح، ثم هو أيضًا وبال عليهم لقول الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 182، 183‏]‏‏.‏ وقال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته‏)‏‏.‏ وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ‏}‏‏.‏ ‏[‏هود‏:‏ 102‏]‏‏.‏ وهؤلاء عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فإن هذه الدنيا جنة لهم بالنسبة للاخرة‏.‏ وقد ذكروا عن ابن حجر العسقلاني شارح البخاري بالشرح الذي سماه ‏(‏فتح الباري‏)‏ وكان قاضي القضاة بمصر، أنه مر ذات يوم وهو على عربته تجره البغال والناس حوله، مر برجل يهودي سمان يعني‏:‏ يبيع السمن والزيت، ومن المعلوم أن الذي يبيع السمن والزيت تكون ثيابه وسخة وحاله سيئة فأوقف العربة وقال لابن حجر‏:‏ إن نبيكم يقول‏:‏ ‏(‏الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر‏)‏، فكيف أنا أكون بهذه الحال وأنت بهذه الحال‏؟‏ فقال له ابن حجر على البديهة‏:‏ أنا في سجن بالنسبة لما أعد الله للمؤمنين من الثواب والنعيم، لأن الدنيا بالنسبة للاخرة ليست بشيء كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏(‏لموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها‏)‏، وأما أنت أيها اليهودي‏:‏ فأنت في جنة بالنسبة لما أعد لك من العذاب إن مت على الكفر فاقتنع بذلك اليهودي وصار ذلك سببًا في إسلامه وقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى‏}‏ يعني أي شيء يغني عنه ماله إذا بخل به وتردى هو‏.‏ أي‏:‏ هلك أي شيء يغني المال‏؟‏ لا يغني شيئًا‏.‏

{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏‏.‏

{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ فيه التزام من الله عز وجل أن يبين للخلق ما يهتدون به إليه‏.‏ والمراد بالهدى هنا‏:‏ هدى البيان والإرشاد فإن الله تعالى التزم على نفسه بيان ذلك حتى لا يكون للناس على الله حجة وهذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏‏.‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏‏.‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏ فلا يمكن للعقل البشري أن يستقل بمعرفة الهدى، ولذلك التزم الله عز وجل بأن يبين الهدى للإنسان ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ وليُعلم أن الهدى نوعان‏:‏ 1 - هدى التوفيق‏.‏ فهذا لا يقدر عليه إلا الله‏.‏ 2 - هدى إرشاد ودلالة، فهذا يكون من الله، ويكون من الخلق‏:‏ من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن العلماء‏.‏ كما قال الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ أما هداية التوفيق فهي إلى الله لا أحد يستطيع أن يوفق شخصًا إلى الخير كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وإذا نظرنا إلى هذه الآية الكريمة ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى‏}‏ وجدنا أن الله تعالى بين كل شيء‏.‏ بين ما يلزم الناس في العقيدة، وما يلزمهم في العبادة، وما يلزمهم في الأخلاق، وما يلزمهم في المعاملات، وما يجب عليهم اجتنابه في هذا كله‏.‏ حتى قال أبو ذر رضي الله عنه‏:‏ لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا‏.‏ وقال رجل من المشركين لسلمان الفارسي‏:‏ علمكم نبيكم حتى الخراءة، قال‏:‏ أجل علمنا حتى الخراءة‏.‏ يعني‏:‏ حتى آداب قضاء الحاجة علمها النبي - صلى الله عليه وسلّم - أمته، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏‏.‏‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ يعني‏:‏ لنا الاخرة والأولى‏.‏ الأولى متقدمة على الاخرة في الزمن، لكنه في هذه الآية أخرها لفائدتين‏:‏ الفائدة الأولى‏:‏ معنوية‏.‏ الفائدة الثانية‏:‏ لفظية‏.‏ أما المعنوية فلأن الاخرة أهم من الدنيا، ولأن الاخرة يظهر فيها ملك الله تعالى تمامًا‏.‏ في الدنيا هناك رؤساء، وهناك ملوك، وهناك أمراء يملكون ما أعطاهم الله عز وجل من الملك، لكن في الاخرة لا ملك لأحد ‏{‏لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فلهذا قدم ذكر الاخرة من أجل هذه الفائدة المعنوية‏.‏ أما الفائدة اللفظية‏:‏ فهي مراعاة الفواصل يعني‏:‏ أواخر الآيات كلها آخرها ألف‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ فما الفرق‏؟‏ الجواب‏:‏ الفرق أن الهدى التزم الله تعالى ببيانه وإيضاحه للخلق، أما الملك فهو لله ملك الاخرة والأولى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى‏}‏ ‏{‏فَأَنذَرْتُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خوفتكم ‏{‏نَارًا‏}‏ يعني بها نار الاخرة‏.‏ ‏{‏تَلَظَّى‏}‏ تشتعل، ولها أوصاف كثيرة في القرآن والسنة‏.‏ ‏{‏لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى‏}‏ ‏{‏لا يَصْلاهَا‏}‏ يعني‏:‏ لا يحترق بها ‏{‏إِلاَّ الأَشْقَى‏}‏ يعني الذي قدرت له الشقاوة‏.‏ والشقاوة ضد السعادة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏ فالمراد بالأشقى يعني‏:‏ الذي لم تكتب له السعادة، هذا هو الذي يصلى النار التي تلظى‏.‏ ثم بين هذا بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى‏}‏ التكذيب في مقابل الخبر، والتولي في مقابل الأمر والنهي‏.‏ فهذا كذب الخبر ولم يصدق، قيل له‏:‏ إنك ستبعث‏.‏ قال‏:‏ لا أبعث‏.‏ قيل له‏:‏ هناك جنة ونار‏.‏ قال‏:‏ ليس هناك جنة ونار‏.‏ قيل له‏:‏ سيكون كذا وكذا، قال‏:‏ ما يكون‏.‏ هذا تكذيب‏.‏ ‏{‏تَوَلَّى‏}‏ يعني أعرض عن طاعة الله، وأعرض عما جاءت به رسله، فهذا هو الشقي‏.‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا‏}‏ أي‏:‏ يجنب هذه النار التي تلظى ‏{‏الأَتْقَى‏}‏ والأتقى اسم تفضيل من التقوى يعني‏:‏ الذي اتقى الله تعالى حق تقاته‏.‏ ‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏ يعني‏:‏ يعطي ماله من يستحقه على وجه يتزكى به، أي‏:‏ يتطهر به، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 103‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى‏}‏ يفيد أنه لا يبذر ولا يبخل، وإنما يؤتي المال على وجه يكون به التزكية، وضابط ذلك ما ذكره الله في سورة الفرقان ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا‏}‏‏.‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 67‏]‏‏.‏ نجد بعض الناس يعطيه الله مالًا، ولكنه يبخل يقتر حتى الواجب عليه لزوجته وأولاده وأقاربه لا يقوم به‏.‏ ونرى بعض الناس قدر الله عليه الرزق وضيق عليه بعض الشيء، ومع هذا يذهب يتدين من الناس من أجل أن يكمل بيته حتى يكون مثل‏:‏ بيت فلان وفلان، أو من أجل أن يشتري سيارة فخمة كسيارة فلان وفلان، وكلا المنهجين والطريقين منهج باطل‏.‏ الأول‏:‏ قصر‏.‏ والثاني‏:‏ أفرط‏.‏ والواجب على الإنسان أن يكون إنفاقه بحسب حاله‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ هل يجوز أن يتدين الإنسان ليتصدق‏؟‏ فالجواب‏:‏ لا‏.‏ لأن الصدقة تطوع، والتزام الدّين خطر عظيم، لأن الدين ليس بالأمر الهين، فالإنسان إذا مات وعليه دين فإن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وكثير من الورثة لا يهتم بدين الميت، تجده يتأخر يماطل وربما لا يوفيه‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قدمت إليه جنازة سأل هل عليه دين له وفاء‏؟‏ فإن قالوا لا، قال‏:‏ ‏(‏صلوا على صاحبكم‏)‏‏.‏ وأخبر صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الشهادة في سبيل الله تكفر كل شيء إلا الدين، فالدين أمره عظيم، لا يجوز للإنسان أن يتهاون به ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى‏}‏ يعني أنه لا يعطي المال مكافأة على نعمة سابقة من شخص فليس لأحد عليه فضل حتى يعطيه مكافأة، ولكنه يعطي ابتغاء وجه الله ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى‏}‏‏.‏ فهو لا ينفق إلا طلب وجه الله، أي طلب الوصول إلى دار كرامة الله التي يكون بها رؤية الله عز وجل‏.‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يَرْضَى‏}‏ يعني سوف يرضيه الله عز وجل بما يعطيه من الثواب الكثير وقد بين الله ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏‏.‏ نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء البررة الأطهار الكرام، إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الضحى

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ ‏{‏وَالضُّحَى‏}‏ الضحى هو أول النهار، وفيه النور والضياء ‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ أي‏:‏ الليل إذا غطى الأرض وسدل عليها ظلامه، فأقسم الله تعالى بشيئين متباينين أولهما‏:‏ الضحى وفيه الضياء والنور، والثاني‏:‏ الليل إذا يغشى وفيه الظلمة‏.‏ ‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ‏}‏ أي ما تركك ‏{‏وَمَا قَلَى‏}‏ أي‏:‏ وما أبغض، بل أحب الخلق إليه فيما نعلم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولهذا اختاره الله لأعظم الرسالات، وأفضل الأمم، وجعله خاتم النبيين، فلا نبي بعده صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فعين الله تعالى تكلأه وترعاه وتحميه وتحفظه وهو الذي قال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 219‏]‏‏.‏ فما تركه الله عز وجل بل أحاطه بعلمه، ورحمته، وعنايته وغير ذلك مما يقتضي رفعته في الدنيا والاخرة‏.‏ كما قال في السورة التي تليها‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى‏}‏ هذه الجملة مؤكدة باللام، لام الابتداء و‏{‏الآخِرَةُ‏}‏ هي اليوم الذي يبعث فيه الناس، ويأوون إلى مثواهم الأخير إلى الجنة أو إلى النار، فيقول الله لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى‏}‏ أي‏:‏ من الدنيا، وذلك لأن الاخرة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وموضع سوط أحدنا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ ولهذا لما خير الله نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مرضه بين أن يعيش في الدنيا ما يعيش وبين ما عند الله، اختار ما عند الله، كما أعلن ذلك صلى الله عليه وعلى آله وسلم في خطبته حيث قال وهو على المنبر‏:‏ ‏(‏إن عبدًا من عباد الله خيره الله بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش وبين ما عنده فاختار ما عنده‏)‏، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وتعجب الناس من بكائه كيف يبكي من هذا، ولكنه رضي الله عنه كان أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏.‏ علم أن المخير هو الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأنه اختار ما عند الله وهو الاخرة، وأن هذا إيذان بقرب أجله‏.‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى‏}‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ‏}‏ اللام هذه أيضًا للتوكيد وهي موطئة للقسم، و‏{‏سَوْفَ‏}‏ تدل على تحقق الشيء لكن بعد مهلة وزمن ‏{‏يُعْطِيكَ رَبُّكَ‏}‏ أي يعطيك ما يرضيك فترضى، ولقد أعطاه الله ما يرضيه - صلى الله عليه وسلّم - فإن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقامًا محمودًا، يحمده فيه الأولون والاخرون، حتى الأنبياء وأولو العزم من الرسل لا يستطيعون الوصول إلى ما وصل إليه‏.‏ فإذا كان يوم القيامة، وعظم الكرب والغم على الخلق، وضاقت عليهم الأمور طلب بعضهم من بعض أن يلتمسوا من يشفع لهم إلى الله عز وجل فيأتون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، هؤلاء خمسة أولهم أبو البشر، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وهؤلاء الأربعة عليهم الصلاة والسلام من أولي العزم، كلهم يعتذرون عن الشفاعة للخلق حتى تصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلّم - فيقوم ويشفع، ولا شك أن هذا عطاء عظيم لم ينله أحد من الخلق، ثم بين الله سبحانه وتعالى نعمه عليه السابقة حتى يستدل بها على النعم اللاحقة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ والاستفهام هنا للتقرير، يعني قد وجدك الله تعالى يتيمًا فأواك، يتيمًا من الأب، ويتيمًا من الأم، فإن أباه توفي قبل أن يولد، وأمه توفيت قبل أن تتم إرضاعه، ولكن الله تعالى تكفل به ويسر له من يقوم بتربيته والدفاع عنه، حتى وصل إلى الغاية التي أرادها الله عز وجل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ وجاء التعبير - والله أعلم - بـ‏{‏فَآوَى‏}‏ لسبب لفظي، وسبب معنوي‏.‏ أما السبب اللفظي‏:‏ فلأجل أن تتوافق رؤوس الآيات من أول السورة، وأما السبب المعنوي‏:‏ فإنه لو كان التعبير ‏(‏فآواك‏)‏ اختص الإيواء به صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر أوسع من ذلك، فإن الله تعالى آواه، وآوى به، آوى به المؤمنين فنصرهم وأيدهم، ودفع عنهم بل دافع عنهم سبحانه وتعالى‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى‏}‏ ‏{‏وَجَدَكَ ضَالاًّ‏}‏ أي غير عالم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلّم - لم يكن يعلم شيئًا قبل أن ينزل عليه الوحي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 113‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏‏.‏ فهو - صلى الله عليه وسلّم - لم يكن يعلم شيئًا بل هو من الأميين ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ لا يقرأ ولا يكتب، لكن وصل إلى هذه الغاية العظيمة بالوحي الذي أنزله الله عليه، فعلم وعلَّم وهنا قال ‏{‏فَهَدَى‏}‏ ولم يأت التعبير - والله أعلم - فهداك، ليكون هذا أشمل وأوسع فهو قد هدى - صلى الله عليه وآله وسلم - وهدى الله به، فهو هاد مهدي - صلى الله عليه وآله وسلم ـ‏.‏ إذًا فهدى أي فهداك وهدى بك‏.‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى‏}‏ أي وجدك فقيرًا لا تملك شيئًا ‏{‏فَأَغْنَى‏}‏ أي أغناك وأغنى بك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وما أكثر ما غنم المسلمون من الكفار تحت ظلال السيوف، غنائم عظيمة كثيرة كلها بسبب هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - حين اهتدوا بهديه، واتبعوا سنته فنصرهم الله تعالى به وغنموا من مشارق الأرض ومغاربها، ولو أن الأمة الإسلامية عادت إلى ما كان عليه السلف الصالح لعاد النصر إليهم، والغنى، والعزة، والقوة ولكن مع الأسف أن الأمة الإسلامية في الوقت الحاضر كل منها ينظر إلى حظوظ نفسه بقطع النظر عما يكون به نصرة الإسلام أو خذلان الإسلام‏.‏ ولا يخفى على من تأمل الوقائع التي حدثت أخيرًا أنها في الحقيقة إذلال للمسلمين، وأنها سبب لشر عظيم كبير يترقب من وراء ما حدث، ولاسيما من اليهود والنصارى الذين هم أولياء بعضهم لبعض كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏ وهم أعني اليهود والنصارى متفقون على عداوة المسلمين، كل لا يريد الإسلام، ولا يريد أهل الإسلام، ولا يريد عز الإسلام‏.‏ ولكن سينصر الله تعالى دينه مهما كانت الأحوال، فالله تعالى ناصر دينه وكتابه، وإن حصل على المسلمين ما يحصل فإن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏‏.‏فربما يأتي اليوم الذي يجاهد فيه المسلمون اليهود حتى يختبىء اليهودي تحت الشجر فينادي الشجر يا مسلم، يا عبدالله هذا يهودي تحتي، فيأتي المسلم ويقتله، وما ذلك على الله بعزيز‏.‏ ولكن المسلمين يحتاجون إلى قيادة حكيمة عليمة بأحكام الشريعة قبل كل شيء، لأن القيادة بغير الاستفادة بنور الشريعة عاقبتها الوبال، مهما علت ولو علت إلى أعلى قمة فإنها سوف تنزل إلى أسفل قعر‏.‏ الهداية بالإسلام، بنور الإسلام، لا بالقومية، ولا بالعصبية، ولا بالوطنية ولا بغير ذلك، بالإسلام فقط‏.‏ فالإسلام وحده هو الكفيل بعزة الأمة، لكن تحتاج إلى قيادة حكيمة تضع الأشياء مواضعها، وتتأنى في الأمور ولا تستعجل، لا يمكن أن يصلح الناس بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فإنه قد أراد أن يغير الله سنته، والله سبحانه وتعالى لا يغير سنته، فهذا نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقي في مكة ثلاث عشرة سنة ينزل عليه الوحي، ويدعو إلى الله بالتي هي أحسن، ومع ذلك في النهاية خرج من مكة خائفًا مختفيًا لم تتم الدعوة في مكة، فلماذا نريد أن نغير الأمة التي مضى عليها قرون وهي في غفلة وفي نوم بين عشية وضحاها، هذا سفه في العقل، وضلال في الدين‏.‏ الأمة تحتاج إلى علاج رفيق هادىء يدعو بالتي هي أحسن، الأمة الإسلامية تحتاج بعد الفقه في دين الله والحكمة في الدعوة إلى الله، تحتاج إلى العلم بالواقع والفطنة والخبرة، ونظر في الأمور التي تحتاج إلى نظر بعيد، لأن النتائج قد لا تتبين في شهر، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين، لكن العاقل يصبر وينظر ويتأمل حتى يعرف، والأمور تحتاج أيضًا إلى عزم وتصميم وصبر؛ لأنه لابد من هذا لابد من عزم يندفع به الإنسان، ولابد من صبر يثبت به الإنسان وإلا لفاتت الأمور أو فات كثير منها والله المستعان‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ‏}‏ هذا في مقابلة ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏، فإذا كان الله آواك في يتمك فلا تقهر اليتيم، بل أكرم اليتيم، والإحسان إلى اليتامى وإكرامهم من أوامر الشريعة ومن حسنات الشريعة، لأن اليتيم الذي مات أبوه قبل أن يبلغ منكسر الخاطر، يحتاج إلى جبر، يحتاج إلى من يسليه، وإلى من يدخل عليه السرور لاسيما إذا كان قد بلغ سنًّا يعرف به الأمور كالسابعة والعاشرة وما أشبه ذلك ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ هذا في مقابل ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى‏}‏ ‏{‏وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ أول ما يدخل في السائل، السائل عن الشريعة عن العلم لا تنهره؛ لأنه إذا سألك يريد أن تبين له الشريعة وجب عليك أن تبينها له لقول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ لا تنهره إن نهرته نفرته، ثم إنك إذا نهرته وهو يعتقد أنك فوقه؛ لأنه لم يأت يسأل إلا أنه يعتقد أنك فوقه، إذا نهرته وهو يشعر أنك فوقه أصابه الرعب واختلفت حواسه، وربما لا يفقه ما يلقي إليك من السؤال، أو لا يفقه ما تلقيه إليه من الجواب، وقس نفسك أنت لو كلمت رجلًا أكبر منك منزلة ثم نهرك ضاعت حواسك، ولم تستطع أن ترتب فكرك وعقلك، لهذا لا تنهر السائل، وربما يدخل في ذلك أيضًا سائل المال، يعني إذا جاءك سائل يسألك مالًا فلا تنهره، لكن هذا العموم يدخله التخصيص‏:‏ إذا عرفت أن السائل في العلم إنما يريد التعنت، وأخذ رأيك وأخذ رأي فلان وفلان حتى يضرب آراء العلماء بعضها ببعض، فإذا علمت ذلك فهنا لك الحق أن تنهره، وأن تقول‏:‏ يا فلان اتق الله ألم تسأل فلانًا كيف تسألني بعدما سألته‏؟‏‏!‏ أتلعب بدين الله‏؟‏‏!‏ أتريد إن أفتاك الناس بما تحب سكتّ، وإن أفتوك بما لا تحب ذهبت تسأل‏؟‏‏!‏‏.‏ هذا لا بأس، لأن هذا النهر تأديب له‏.‏ وكذلك سائل المال إذا علمت أن الذي سألك المال غني فلك الحق أن تنهره ولك الحق أيضًا أن توبخه على سؤاله وهو غني، إذًا هذا العموم ‏{‏السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ‏}‏ مخصوص فيما إذا اقتضت المصلحة أن ينهر فلا بأس ‏{‏وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ‏}‏ نعمة الله تعالى على الرسول - صلى الله عليه وسلّم - التي ذكرت في هذه الآيات ثلاث ‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى‏}‏ وبهذه الثلاث تتم النعم‏.‏ حدث بنعمة الله قل‏:‏ كنت يتيمًا فآواني الله، كنت ضالًا فهداني الله، كنت عائلًا فأغناني الله، لكن تحدث بها إظهارًا للنعمة وشكرًا للمنعم، لا افتخارًا بها على الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك افتخارًا على الخلق كان هذا مذمومًا‏.‏ أما إذا قلت أو إذا ذكرت نعمة الله عليك تحدثًا بالنعم، وشكرًا للمنعم فهذا مما أمر الله به‏.‏ هذه كلمات يسيرة على هذه السورة العظيمة، وما نقوله نحن أو غيرنا من أهل العلم فإنه لا يستوعب ما دل عليه القرآن من المعاني العظيمة، نسأل الله أن يرزقنا الفهم في دين الله، والعمل بما علمنا إنه على كل شيء قدير‏.‏

 تفسير سورة الشرح

{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏‏.‏

البسملة تقدم الكلام عليها‏.‏ قال الله سبحانه وتعالى مبينًا نعمته على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ هذا الاستفهام يقول العلماء إنه استفهام تقرير، واستفهام التقرير يرد في القرآن كثيرًا، ويقدّر الفعل بفعل ماضٍ مقرون بقد‏.‏ ففي قوله ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ‏}‏ يقدّر بأن المعنى قد شرحنا لك صدرك؛ لأن الله يقرر أنه شرح له صدره، وهكذا جميع ما يمر بك من استفهام التقرير فإنه يقدر بفعل ماضٍ مقرون بقد، أما كونه يقدر بفعل ماضٍ؛ فلأنه قد تم وحصل، وأما كونه مقرونًا بقد؛ فلأن قد تفيد التحقيق إذا دخلت على الماضي، وتفيد التقليل إذا دخلت على المضارع، وقد تفيد التحقيق، ففي قول الناس‏:‏ ‏(‏قد يجود البخيل‏)‏ قد هذه للتقليل، لكن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 64‏]‏‏.‏ هذه للتحقيق ولا شك‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ أي‏:‏ نوسعه، وهذا الشرح شرح معنوي ليس شرحًا حسيًّا، وشرح الصدر أن يكون متسعًا لحكم الله عز وجل بنوعيه، حكم الله الشرعي وهو الدين، وحكم الله القدري وهو المصائب التي تحدث على الإنسان؛ وذلك لأن الشرع فيه مخالفة للهوى فيجد الإنسان ثقلًا في تنفيذ أوامر الله، وثقلًا في اجتناب محارم الله، لأنه مخالف لهوى النفس، والنفس الأمارة بالسوء لا تنشرح لأوامر الله ولا لنواهيه، تجد بعض الناس تثقل عليه الصلاة كما قال الله تعالى في المنافقين‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏‏.‏ ومن الناس من تخف عليه الصلاة بل يشتاق إليها ويترقب حصولها كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏جعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏، إذًا فالشرع فيه ثقل على النفوس، كاجتناب المحرمات، فبعض الناس يهوى أشياء محرمة عليه كالزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك فتثقل عليه، ومن الناس من ينشرح صدره لذلك ويبتعد عما حرم الله، وانظر إلى يوسف - صلى الله عليه وآله وسلم - لما دعته امرأة العزيز بعد أن غلقت الأبواب وقالت‏:‏ هيت لك وتهيأت له بأحسن ملبس وأحسن صورة، والمكان آمن أن يدخل أحد، غلقت الأبواب، وقالت‏:‏ هيت لك، قال‏:‏ معاذ الله، استعاذ بربه لأن هذه حال حرجة، شاب وامرأة العزيز، ومكان خالٍ وآمن، والإنسان بشر ربما تسوّل له نفسه أن يفعل ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏]‏‏.‏ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال‏:‏ إني أخاف الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه‏)‏، والشاهد من هذا قوله‏:‏ ‏(‏رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله‏)‏ فشرح الصدر للحكم الشرعي معناه قبول الحكم الشرعي والرضا به وامتثاله، وأن يقول القائل سمعنا وأطعنا، وأنت بنفسك أحيانًا تجد قلبك منشرحًا للعبادة تفعلها بسهولة وانقياد وطمأنينة ورضا، وأحيانًا بالعكس لولا خوفك من الإثم ما فعلت، فإذا كان هذا الاختلاف في الشخص الواحد فما بالك بالأشخاص‏.‏ وأما انشراح الصدر للحكم القدري، فالإنسان الذي شرح الله صدره للحكم الكوني تجده راضيًا بقضاء الله وقدره، مطمئنًا إليه، يقول‏:‏ أنا عبد، والله رب يفعل ما يشاء، هذا الرجل الذي على هذه الحال سيكون دائمًا في سرور لا يغتم ولا يهتم، هو يتألم لكنه لا يصل إلى أن يحمل هًّما أو غمًّا ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال‏:‏ ‏(‏عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له‏)‏، إذًا شرح الصدر يعني توسعته وتهيئته لأحكام الله الشرعية والقدرية، لا يضيق بأحكام الله ذرعًا إطلاقًا، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلّم - له الحظ الأوفر من ذلك، ولهذا تجده أتقى الناس لله، وأشدهم قيامًا بطاعة الله، وأكثرهم صبرًا على أقدار الله، ماذا فعل الناس به حين قام بالدعوة‏؟‏ وماذا يصيبه من الأمراض‏؟‏ حتى إنه يوعك كما يوعك الرجلان منا يعني من المرض يشدد عليه يعني كرجلين منا، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - وهو يوعك، فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، قال‏:‏ أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم‏)‏‏.‏ وحتى أنه شدد عليه عند النزع عند الموت - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يفارق الدنيا وهو أصبر الصابرين، والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود شيء يصبر عليه، أما الشيء اليسير البارد فلا صبر عليه، لهذا نجد الأنبياء أكثر الناس بلاء ثم الصالحين الأمثل فالأمثل‏.‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ قد يقول قائل‏:‏ إن بين الجملتين تنافر، الجملة الأولى فعل مضارع ‏{‏نَشْرَحْ‏}‏ والثانية فعل ماض ‏{‏وَضَعْنَا‏}‏ لكن بناء على التقرير الذي قلت وهو أن ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ‏}‏ بمعنى قد شرحنا يكون عطف ووضعنا عطفه على نظيره ومثيله ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ‏}‏ وضعناه أي طرحناه وعفونا وسامحنا وتجاوزنا عنك ‏{‏وِزْرَكَ‏}‏ أي إثمك ‏{‏الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ يعني أقضه وآلمه؛ لأن الظهر هو محل الحمل، فإذا كان هناك حمل يتعب الظهر فإتعاب غيره من باب أولى، لأن أقوى عضو في أعضائك للحمل هو الظهر، وانظر للفرق بين أن تحمل كيسًا على ظهرك أو تحمله بين يديك بينهما فرق، فالمعنى أن الله تعالى غفر للنبي - صلى الله عليه وسلّم - وزره وخطيئته حتى بقي مغفورًا له، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏.‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلّم - وهو يقوم الليل ويطيل القيام حتى تتورم قدماه أو تتفطر قيل له‏:‏ أتصنع هذا، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏، إذًا مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة ثابتة بالقرآن والسنة، وهذا من خصائص الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أحد من الناس يغفر له ما تقدم وما تأخر إلا الرسول - صلى الله عليه وسلّم - أما غيره فيحتاج إلى توبة من الذنب، وقد يغفر الله له سبحانه وتعالى بدون توبة ما دون الشرك، لكن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - نجزم بأنه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏‏.‏ فإن قال قائل‏:‏ هذه الآية وما سقناه شاهدًا لها يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلّم - قد يذنب فهل النبي - صلى الله عليه وسلّم - يذنب‏؟‏ فالجواب‏:‏ نعم، ولا يمكن أن نرد النصوص لمجرد أن نستبعد وقوع الذنب منه صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن لا نقول الشأن ألا يذنب الإنسان بل الشأن أن يغفر للإنسان، هذا هو المهم أن يغفر له، أما أن لا يقع منه الذنب فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون‏)‏، لابد من خطيئة لكن هناك أشياء لا يمكن أن تقع من الأنبياء مثل الكذب والخيانة، فإن هذا لا يمكن أن يقع منهم إطلاقًا، لأن هذا لو فرض وقوعه لكان طعنًا في رسالتهم وهذا شيء مستحيل، وسفاسف الأخلاق من الزنا وشبهه هذا أيضًا ممتنع، لأنه ينافي أصل الرسالة، فالرسالة إنما وجدت لتتميم مكارم الأخلاق كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏(‏إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق‏)‏، فالحاصل أن الله سبحانه وتعالى وضع عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وزره، وبين أن هذا الوزر قد أنقض ظهره أي أقضه وأتعبه، وإذا كان هذا وزر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فكيف بأوزار غيره، أوزارنا تقض ظهورنا وتنقضها وتتعبها، ولكن كأننا لم نحمل شيئًا، وذلك لضعف إيماننا وبصيرتنا وكثرة غفلتنا، نسأل الله أن يعاملنا بالعفو، في بعض الاثار أن المؤمن إذا أذنب ذنبًا صار عنده كالجبل فوق رأسه وإن المنافق إذا أذنب ذنبًا صار عنده كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، يعني أنه لا يهتم، فالمؤمن تهمه خطاياه وتلحقه الهم حتى يتخلص منها بتوبة واستغفار، أو حسنات جليلة تمحو آثار هذه السيئة، وأنت إذا رأيت من قلبك الغفلة عن ذنوبك فاعلم أن قلبك مريض، لأن القلب الحي لا يمكن أن يرضى بالمرض، ومرض القلوب هي الذنوب كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله‏:‏ رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانهاوترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها فيجب علينا أن نهتم بأنفسنا وأن نحاسبها، وإذا كان التجار لا ينامون حتى يراجعوا دفاتر تجارتهم، ماذا صرفوا، وماذا أنفقوا، وماذا كسبوا، فإن تجار الاخرة ينبغي أن يكونوا أشد اهتمامًا؛ لأن تجارتهم أعظم، فتجارة أهل الدنيا غاية ما تفيدهم إن أفادتهم هو إتراف البدن فقط، على أن هذه التجارة يلحقها من الهم والغم ما هو معلوم، وإذا خسر في سلعة اهتم لذلك، وإذا كان في بلده مخاوف‏:‏ قطاع طريق، أو سراق صار أشد قلقًا، لكن تجارة الاخرة على العكس من هذا ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10 - 12‏]‏‏.‏ تنجي من العذاب، ويغفر الله بها الذنوب، ويدخل بها الجنات، جنات عدن أي جنات إقامة، ومساكن طيبة في جنات عدن، مساكن طيبة في بنايتها وفي مادة البناء، كما قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما‏)‏، والله لو يبقى الإنسان في سجدة منذ بلغ إلى أن يموت لكان هذا ثمنًا قليلًا بالنسبة إلى هذه الغنيمة العظيمة، ولو لم يكن إلا أن ينجو الإنسان من النار لكفى، أحيانًا الإنسان يفكر يقول ليتني لم أولد أو يكفيني أن أنجو من النار، وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ ليتني شجرة تعضد، ليت أمي لم تلدني، لأن الإنسان يظن أنه آمن لأنه يصلي، ويصوم، ويتصدق، ويحج ويبر الوالدين وما أشبه ذلك، لكن قد يكون في قلبه حسيكة تؤدي إلى سوء الخاتمة، - والعياذ بالله - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلّم - ‏:‏ ‏(‏إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع‏)‏ يعني مدة قريبة لموته ما هو إلا ذراع في العمل؛ لأن عمله كله هباء، هو يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قوله‏:‏ ‏(‏حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع‏)‏ ليس معناه أن عمله أوصله إلى قريب من الجنة، وإنما المعنى حتى لا يبقى عليه إلا مدة قليلة في الحياة ‏(‏ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها‏)‏ لكن هذا فيما إذا كان عمل الإنسان للناس كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - ‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار‏)‏، والإنسان إذا مر على مثل هذه النصوص يخاف على نفسه، يخاف من الرياء، يخاف من العجب، يخاف من الإذلال‏.‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ رفع ذكر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أحد يشك فيه؛ أولًا‏:‏ لأنه يرفع ذكره عند كل صلاة في أعلى مكان وذلك في الأذان‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله‏.‏ ثانيًا‏:‏ يرفع ذكره في كل صلاة فرضًا في التشهد، فإن التشهد مفروض، وفيه أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ ثالثًا‏:‏ يرفع ذكره عند كل عبادة، كل عبادة مرفوع فيها ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن كل عبادة لابد فيها من شرطين أساسيين هما‏:‏ الإخلاص لله تعالى، والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن المعلوم أن المتابع للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف يستحضر عند العبادة أنه متبع فيها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهذا من رفع ذكره‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ هذا بشارة من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولسائر الأمة، وجرى على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عسر حينما كان بمكة يضيق عليه، وفي الطائف، وكذلك أيضًا في المدينة من المنافقين فالله يقول‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ يعني كما شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك، ورفعنا لك ذكرك، وهذه نعم عظيمة كذلك هذا العسر الذي يصيبك لابد أن يكون له يسر ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ قال ابن عباس عند هذه الآية‏:‏ ‏(‏لن يغلب عسٌر يسرين‏)‏، وتوجيه كلامه - رضي الله عنه - مع أن العسر ذكر مرتين واليسر ذكر مرتين‏.‏ قال أهل البلاغة‏:‏ توجيه كلامه أن العسر لم يذكر إلا مرة واحدة ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ العسر الأول أعيد في الثانية بال، فال هنا للعهد الذكري، وأما يسر فإنه لم يأت معرفًا بل جاء منكرًا، والقاعدة‏:‏ أنه إذا كرر الاسم مرتين بصيغة التعريف فالثاني هو الأول إلا ما ندر، وإذا كرر الاسم مرتين بصيغة التنكير فالثاني غير الأول، لأن الثاني نكرة، فهو غير الأول، إذًا في الايتين الكريمتين يسران وفيهما عسر واحد، لأن العسر كرر مرتين بصيغة التعريف ‏{‏فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا‏}‏ هذا الكلام خبر من الله عز وجل، وخبره جل وعلا أكمل الأخبار صدقًا، ووعده لا يخلف، فكلما تعسر عليك الأمر فانتظر التيسير، أما في الأمور الشرعية فظاهر، ففي الصلاة‏:‏ صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب، فهذا تيسير، إذا شق عليك القيام اجلس، إن شق عليك الجلوس صل وأنت على جنبك، وفي الصيام إن قدرت وأنت في الحضر فصم، وإن لم تقدر فأفطر، إذا كنت مسافرًا فأفطر، في الحج إن استطعت إليه سبيلًا فحج، وإن لم تستطع فلا حج عليك، بل إذا شرعت في الحج وأحصرت ولم تتمكن معه من إكمال الحج فتحلل، وافسخ الحج واهدِ لقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 196‏]‏‏.‏ إذًا كل عسر يحدث للإنسان في العبادة يجد التسهيل واليسر‏.‏ كذلك في القضاء والقدر، يعني تقدير الله على الإنسان من مصائب، وضيق عيش، وضيق صدر وغيره لا ييأس، فإن مع العسر يسرًا، والتيسير قد يكون أمرًا ظاهرًا حسيًّا، مثل‏:‏ أن يكون الإنسان فقيرًا فتضيق عليه الأمور فييسر الله له الغنى، مثال آخر‏:‏ إنسان مريض يتعب يشق عليه المرض فيشفيه الله عز وجل، هذا أيضًا تيسير حسي، هناك تيسير معنوي وهو معونة الله الإنسان على الصبر هذا تيسير، فإذا أعانك الله على الصبر تيسر لك العسير، وصار هذا الأمر العسير الذي لو نزل على الجبال لدكها، صار بما أعانك الله عليه من الصبر أمرًا يسيرًا، وليس اليسر معناه أن ينفرج الشيء تمامًا فقط، اليسر أن ينفرج الكرب ويزول وهذا يسر حسي، وأن يعين الله الإنسان على الصبر حتى يكون هذا الأمر الشديد العسير أمرًا سهلًا عليه، نقول هذا لأننا واثقون بوعد الله‏.‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ أي إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر، يعني اتعب لعمل آخر، لا تجعل الدنيا تضيع عليك، ولهذا كانت حياة الإنسان العاقل حياة جد، كلما فرغ من عمل شرع في عمل آخر، وهكذا؛ لأن الزمن يفوت على الإنسان في حال يقظته ومنامه، وشغله وفراغه، يسير ولا يمكن لأحد أن يمسك الزمن، لو اجتمع الخلق كلهم ليوقفوا الشمس حتى يطول النهار ما تمكنوا، فالزمن لا يمكن لأحد أن يمسكه، إذًا اجعل حياتك حياة جد، إذا فرغت من عمل فانصب في عمل آخر، إذا فرغت من عمل الدنياعليك بعمل الاخرة، فرغت من عمل الاخرة اشتغلت بأمر الدنيا فإذا قضيت الصلاة يوم الجمعة فانتشر في الأرض وابتغِ من فضل الله، وصلاة الجمعة يكتنفها عملان دنيويان ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ‏}‏ يعني وأنتم مشتغلون في دنياكم ‏{‏فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9، 10‏]‏‏.‏ فإذا فرغنا من شغل اشتغلنا في آخر، وإذا فرغنا منه اشتغلنا في آخر وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان دائمًا في جد‏.‏ فإذا قال قائل‏:‏ لو أنني استعملت الجد في كل حياتي لتعبت ومللت‏.‏ قلنا‏:‏ إن استراحتك لتنشيط نفسك وإعادة النشاط يعتبر شغلًا وعملًا، يعني لا يلزم الشغل بالحركات ففراغك من أجل أن تنشط للعمل الاخر يعتبر عملًا، المهم أن تجعل حياتك كلها جدًّا وعملًا‏.‏ ‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ يعني إذا عملت الأعمال التي فرغت منها ونصبت في الأخرى، فارغب إلى الله عز وجل في حصول الثواب، وفي حصول الأجر، وفي الإعانة كن مع الله عز وجل قبل العمل وبعد العمل، قبل العمل كن مع الله تستعينه عز وجل، وبعده ترجو منه الثواب‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ فائدة بلاغية ‏{‏إِلَى رَبِّكَ‏}‏ متعلقة من حيث الإعراب بـ‏(‏ارغب‏)‏ وهي مقدمة عليها، وتقديم المعمول يفيد الحصر، يعني إلى الله لا إلى غيره فارغب في جميع أمورك، وثق بأنك متى علقت رغبتك بالله عز وجل فإنه سوف ييسر لك الأمور، وكثير من الناس تنقصهم هذه الحال أي ينقصهم أن يكونوا دائمًا راغبين إلى الله، فتجدهم يختل كثير من أعمالهم؛ لأنهم لم يكن بينهم وبين الله تعالى صلة في أعمالهم‏.‏ نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممتثلين لأوامره، مصدقين بأخباره، إنه على كل شيء قدير‏.‏